التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله والصالحين

09:54 - 2021/06/12

من المتعارف عليه بين كل مَن يتشرف بزيارة المدينة المنورة مدينة رسول الله أنه يرى القبر المقدس للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله محاطا ومحروسا بمشايخ وجنود، همهم الوحيد منع الناس من التبرك بلمس القبر والضريح المبارك نتيجة تحريم البعض وعلى رأسهم الوهابية لمثل هذه الأفعال ويرونها منحرفة وخارجة عن دائرة تعاليم الإسلام. وقد خضعت مسألة التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله، وآثار الصالحين للكثير من النقاش والبحث والكلام والتحليل بين علماء المسلمين. وسنتوقف عند أبرز الآراء والكلمات لأعلام بعض المذاهب الإسلامية لنصل بعدها إلى خلاصة المذهب الشيعي في هذا الموضوع فنفول:

التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله, التبرك بآثار الصالحين, الوهابية, ابن تيمية, ابن القيم,

إن حكم التبرك بآثار النبي صلى الله عليه وآله، وآثار الصالحين عند الوهابية ممنوع إلا ما استثنته النصوص التي لديهم وهي شعر النبي صلى الله عليه وآله وعرقه وماء وضوئه وكل ما مس جسده الطاهر صلى الله عليه وآله ، وهم يعللون المنع تارة بأنه بدعة ، وتارة بأنه يفضي إلى الشرك ، وأحيانا يصرحون بأن ذلك التبرك بحد ذاته شرك أصغر. وهنا نتوقف عند كلام لأحد علمائهم وهو عبد العزيز بن عبد الله بن باز في معرض رده على كتاب للشيخ محمد واعظ زاده[1]. ونحن نقتبس من كلامه بتصرف:
وأما التبرك بما مس جسده عليه الصلاة والسلام من وضوء أو عرق أو شعر ونحو ذلك، فهذا أمر معروف وجائز عند الصحابة، وأتباعهم بإحسان لما في ذلك من الخير والبركة، وهذا أقرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه.
وأما التمسح بالأبواب والجدران والشبابيك ونحوها في المسجد الحرام أو المسجد النبوي، فبدعة لا أصل لها، والواجب تركها؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز منها إلا ما أقره الشرع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)[2]  ... فالواجب على المسلمين التقيد في ذلك بما شرعه الله كاستلام الحجر الأسود وتقبيله، واستلام الركن اليماني. ولهذا صح عن عمر بن الخطاب أنه قال لما قبل الحجر الأسود: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك)[3]. وبذلك يعلم أن استلام بقية أركان الكعبة، وبقية الجدران والأعمدة غير مشروع؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يفعله ولم يرشد إليه، ولأن ذلك من وسائل الشرك. وهكذا الجدران والأعمدة والشبابيك وجدران الحجرة النبوية من باب أولى؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يشرع ذلك ولم يرشد إليه ولم يفعله أصحابه.
وأما دعاء الأنبياء والأولياء والاستغاثة بهم والنذر لهم ونحو ذلك فهو الشرك الأكبر، وهو الذي كان يفعله كفار قريش مع أصنامهم وأوثانهم، وهكذا بقية المشركين يقصدون بذلك أنها تشفع لهم عند الله، وتقربهم إليه زلفى، ولم يعتقدوا أنها هي التي تقضي حاجاتهم وتشفي مرضاهم وتنصرهم على عدوهم، كما بين الله سبحانه ذلك عنهم في قوله سبحانه: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [4]... فأبان سبحانه في هذه الآية الكريمة: أن الكفار لم يقصدوا من آلهتهم أنهم يشفون مرضاهم، أو يقضون حوائجهم، وإنما أرادوا منهم أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، فأكذبهم سبحانه ورد عليهم قولهم بقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ فسماهم كذبة وكفارا بهذا الأمر؛ فالواجب على مثلكم تدبر هذا المقام وإعطاؤه ما يستحق من العناية.
ثم استعرض ابن باز في رده كلاما(5) لابن تيمية في هذا السياق ما نصه: (والمشركون الذين وصفهم الله ورسوله بالشرك أصلهم صنفان: قوم نوح، وقوم إبراهيم. فقوم نوح كان أصل شركهم العكوف على قبور الصالحين ثم صوروا تماثيلهم، ثم عبدوهم، وقوم إبراهيم كان أصل شركهم عبادة الكواكب والشمس والقمر، وكل من هؤلاء يعبدون الجن، فإن الشياطين قد تخاطبهم، وتعينهم على أشياء، وقد يعتقدون أنهم يعبدون الملائكة، وإن كانوا في الحقيقة إنما يعبدون الجن، فإن الجن هم الذين يعينونهم، ويرضون بشركهم قال الله تعالى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ[6]، والملائكة لا تعينهم على الشرك لا في المحيا ولا في الممات ولا يرضون بذلك، ولكن الشياطين قد تعينهم وتتصور لهم في صور الآدميين، فيرونهم بأعينهم ويقول أحدهم: أنا إبراهيم، أنا المسيح، أنا محمد، أنا الخضر، أنا أبو بكر، أنا عمر، أنا عثمان، أنا علي، أنا الشيخ فلان، وقد يقول بعضهم عن بعض: هذا هو النبي فلان، أو هذا هو الخضر، ويكون أولئك كلهم جنا، يشهد بعضهم لبعض، والجن كالإنس فمنهم الكافر، ومنهم الفاسق، ومنهم العابد الجاهل، فمنهم من يحب شيخا فيتزيا في صورته ويقول: أنا فلان، ويكون ذلك في برية ومكان قفر، فيطعم ذلك الشخص طعاما ويسقيه شرابا، أو يدله على الطريق، أو يخبره ببعض الأمور الواقعة الغائبة، فيظن ذلك الرجل أن نفس الشيخ الميت أو الحي فعل ذلك، وقد يقول: هذا سر الشيخ وهذه حقيقته، أو هذا ملك جاء على صورته، وإنما يكون ذلك جنيا، فإن الملائكة لا تعين على الشرك والإفك، والإثم والعدوان. وقد قال الله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا[7] ... إلى آخر ما ذكره في رسالته المسماة: "القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة". 
ونقل أيضا كلاما[8] عن تلميذ بن تيمية ابن القيم، جاء في نتيجته ما نقله بن القيم عن صحيح البخاري ومسلم أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن من أشرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد) [9]... 
وبما نقلنا _يقول ابن باز_ ... عن شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم يتضح لكم ولغيركم من القراء أن ما يفعله الجهال من الشيعة وغيرهم عند القبور من دعاء أهلها، والاستغاثة بهم، والنذر لهم، والسجود لهم، وتقبيل القبور... كل ذلك من الشرك الأكبر لكونه عبادة لهم، والعبادة حق لله وحده... والواجب _يضيف ابن باز_ على المسلمين الاتباع والتقيد بالشرع، والحذر من البدع القولية والعملية... إلى آخر كلامه في رسالته. 
هذه جملة من الأقوال والآراء لعلماء الوهابية فتعالوا معنا نستعرض ما نص عليه بعض أعلام أهل السنة روماً للإختصار: حيث ينقل الذهبي[10] في ترجمة أحمد بن حنبل: قال عبد الله بن أحمد: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، فيضعها على فيه يقبلها . وأحسب أني رأيته يضعها على عينه ، ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به، ورأيته أخذ قصعة النبي، صلى الله عليه وآله وسلم فغسلها في حب الماء ، ثم شرب فيها ورأيته يشرب من ماء زمزم يستشفي به ، ويمسح به يديه ووجهه. قال الذهبي: قلت: أين المتنطع المنكر على أحمد. 
أما نظرة الشيعة للتبرك فواضحة لا لبس فيها وهي أنه لا يوجد ولا شيعي واحد يعبد القبور, وانما هو زيارة وتبرّك وعبادة لله سبحانه وتعالى في اماكن يستجاب فيها الدعاء, لانها اماكن تضم قبور الانبياء والائمة والصالحين، وإن كان مراد البعض ان مطلق التبرك هو عبادة للقبر فنجيب بما يلي:
أنّه لم نجد قولاً بالحرمة لأحد من أعلام المذاهب الاربعة ممّن لهم ولآرائهم قيمة في المجتمع, وإنما القائل بالنهي عنه من اولئك يراه تنزيها لا تحريما, ويقول بالكراهة مستنداً إلى  زعمٍ أنّ الدنوّ من القبر الشريف يخالف حسن الأدب، ويحسب أنّ البعد منه أليق به، وليس من شأن الفقيه ان يفتي في دين الله بمثل هذه الاعتبارات التي لا تبنى على أساس، وتختلف باختلاف الأنظار والآراء .
نعم, هناك اناس شذّت عن شرعة الحق وحكموا بالحرمة, قولاً بلا دليل, وتحكّما بلا برهان, ورأياً بلا بيّنة وهم معروفون في الملأ بالشذوذ, لا يعبأ بهم وبآرائهم كما هو حال الوهابية وعلماؤها. 
ونحن نذكر لكم بعض الصحابة الذين تبرّكوا بقبر رسول الله صلى الله عليه وآله لتقفوا على الحقيقة .
>الاول: عن على عليه السلام قال : لما رمس رسول الله صلى الله عليه وآله جاءت فاطمة - رضي الله تعالى عنها - فوقفت على قبره صلى الله عليه وآله وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعت على عينها, وبكت وأنشات تقول : ماذا على من شمّ تربة أحمد ان لا يشمّ مدى الزمان غواليا.. 
صبّت عليّ مصائب لو أنّها صبّت على الايام عدن لياليـا[11]
>الثاني: (عن أبي الدرداء قال : إنّ بلالاً - مؤذّن النبي صلى الله عليه وآله - رأى في منامه رسول الله صلى الله عليه وآله وهو يقول : ما هذه الجفوة يا بلال ؟ أما آن لك أن تزورني يا بلال ؟ فانتبه حزينا وجلاً خائفاً, فركب راحلته وقصد المدينة, فأتى قبر النبي صلى الله عليه وآله فجعل يبكي عنده ويمرّغ وجهه عليه، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما فجعل يضمّهما ويقبّلهما) .[12]
>الثالث: (عن علي عليه السلام قال : قدم علينا اعرابي بعدما دفنّا رسول الله صلى الله عليه وآله بثلاثة أيّام, فرمى بنفسه على قبر النبي صلى الله عليه وآله وحثا من ترابه على رأسه وقال : يا رسول الله قلتَ فسمعنا قولك, ووعيت عن الله سبحانه فوعينا عنك, وكان فيما أنزل عليك : {وَلَو أَنَّهُم إِذ ظَلَمُوا أَنفُسَهُم جَاءُوكَ}. [13]  وقد ظلمت نفسي وجئتك تستغفر لي . فنودي من القبر : قد غفر لك). [14].
واما بالنسبة الى طلب الحوائج منهم عليهم السلام فانما هي في الحقيقة أن الشيعة تطلب الحوائج من الله سبحانه وتعالى ليقضيها لهم بحق صاحب القبر ومنزلته من الله، أو طلب الحاجة من صاحب القبر ليطلبها هو من الله سبحانه وتعالى، فان عقيدتنا نحن الشيعة أن النبي والائمة كما كانوا يدعون لشيعتهم في حياتهم ويحيطون بهم علماً، فكذلك بعد وفاتهم .
وفي الختام نسأل الله أن يرزقنا الهداية والسداد. 

___________________________

المصادر 

[1]. هو محمد واعظ زاده الخراساني ( 1926_ 2016)
عالم وباحث ومفكر إسلامي شيعي إيراني معاصر، وأستاذ جامعة فردوسي في مشهد الإيرانية، كان نائبا لرئيس الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي كان يرأسه الشيخ يوسف القرضاوي سابقا. وكان من دعاة التقريب بين المذاهب الإسلامية. كما أنه أوّل أمين عام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية والمؤسس وأول رئيس لجامعة المذاهب الإسلامية في طهران. 
[2]. صحيح البخاري الصفحة أو الرقم: 2697. وصحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 1718
[3]. صحيح مسلم الصفحة أو الرقم: 1270
[4]. سورة الزمر الآية 2_3.
[5]. الفتاوى ص 157 ج1 
[6]. سورة سبأ الآيتان 40 –41. 
[7]. سورة الإسراء الآيتان 56 – 57.
[8]. الجواب الكافي ص 156
[9].الجواب الكافي الصفحة أو الرقم 101
[10]سير أعلام النبلاء ج 11 ص 212
[11]اخرجه : ابن الجوزي في الوفا في فضائل المصطفى : ص819 ح1538 .
العسقلاني في المواهب اللدنيّة : 4 / 563 .
القاري في شرح الشمائل : 2 / 210, وغيرهم .
[12]اخرجه : ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق : 7 / 137 رقم 493 .
ابن الأثير في أسد الغابة : 1 / 244 رقم 493 .
المقدسي في تهذيب الكمال : 4 / 289 رقم 782, وغيرهم .
[13]. سورة النساء الآية 64
[14]. اخرجه : العسقلاني في المواهب اللدنيّة : 4 / 583 .
الحمزاوي المالكي في مشارق الانوار : 1 / 121 السمهودي في وفاء الوفا : 4 / 1399, وغيرهم 

Plain text

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a> <em> <strong> <span> <blockquote> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd> <br> <hr> <h1> <h2> <h3> <h4> <h5> <h6> <i> <b> <img> <del> <center> <p> <color> <dd> <style> <font> <u> <quote> <strike> <caption>
  • تتحول مسارات مواقع وب و عناوين البريد الإلكتروني إلى روابط آليا.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
7 + 3 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.