وما أدراك ما العقبة

09:12 - 2021/06/17

- كثير منا يهتم بجانب العبادة -من قبيل الصلاة والصوم ..- أكثر ونُعلّق على ذلك رجاءنا لرحمة الله تعالى، والحق أنه من النادر جدّا ان نجد في الأحاديث أنّ هكذا أعمال يضمن الجنة، بينما صرّح القرآن الكريم أعمالا أخرى تضمن لفاعلها الجنة والرحمة والخير والنجاة، إلا أننا غفلنا نها بل تجاهلناها، وفي هذا المقال إشارة إلى بعض تلك الأعمال المباركة، تذكرة لأنفسنا ورجاء لرحمة خالقنا تعالى.

فلا اقتحم العقبة - إطعام المساكين- المنجيات

يسارع بل ويهرع كثيرون في العالم الإسلامي إلى أداء ما يسمي بالطقوس الدينية، مثل الصلاة خمس مرات يوميا، وصوم شهر رمضان، والسفر لأداء العمرة أو الحج، وغير ذلك من المناسك والطقوس.
ولا اعتراض على الإطلاق في فعل ذلك، ولكن يبدو أن من يفعلون ذلك يتصورون أن أداء مثل هذه الطقوس هو أكبر ضامن لهم لدخول الجنة.
والحقيقة الغريبة هي أن القرآن لم يعط ضمانا على الإطلاق بدخول الجنة لمن يمارسون هذه الطقوس، والتي حتى لم يتم ذكر تفاصيلها في القرآن.
وعلى العكس تماما، فإن القرآن الكريم أعطى أولوية لأمور أخرى، غفل عنها الكثيرون في العالم الإسلامي وأهملها فقهاء الشريعة عبر العصور.
القرآن لم يعط ضمانا على الإطلاق بدخول الجنة لمن يمارسون هذه الطقوس
وليس هناك وضوح في هذا الأمر أكثر من الآية القرآنية الكريمة التالية، والتي تتحدث عن "عقبة" أو حائل يقف بين الإنسان وبين دخول الجنة، وتصف الآية الرائعة كيفية اجتياز هذا المانع أو اجتياحه أو كما وصفت الآية الكريمة "اقتحامه" فقالت في سورة البلد: " فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)(1).
ويا له من وصف مهول ونسج أدبي رائع، فأول عقبة تعيق الإنسان عن دخول جنات الفردوس الأعلى يكون "اقتحامها" من خلال فك رقبة (أي تحرير إنسان من العبودية أو الرق).
والأمر بفك الرقاب في القرآن كان واضحا كالشمس في منتصف النهار أيضا في قوله تعالى: "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (2). وهي الآية التي تستخدم في تحديد مصارف الزكاة.
قد يتساءل البعض وكيف لنا اليوم بأن نفك الرقاب وليس هناك عبيد؟ وهنا يأتي التأويل بأن الإنسان قد يكون عبدا للفقر والجوع والظلم والهوان، وأن إنقاذ البشر وانتشالهم من ذل العوز والاحتياج والقهر هو أفضل فك لرقابهم من ذل العبودية لمثل هذه الأشياء.
ويؤسفني أشد الأسف أنه بعد إنهاء الرق في العالم فلقد رأيناه ورأينا قبحه وبشاعته مجددا في "الدولة الإسلامية"، أو كما يطلق عليها اسم "داعش" في سوريا والعراق!
والآن أنتقل إلى كيفية اقتحام العقبة الثانية، وهذا كما ذكرت الآية الكريمة بإطعام في يوم ذي هول شديد (ذي مسغبة)، يتيما قريبا ذا مقربة، والقرب قد يكون في قرابة الدم أو قرب المكان أو في مفهوم الإنسانية عامة، وقد يكون بـ"إطعام مسكينا" في قمة ضعفه وقلة حيلته حتى أنه عجز عن إزالة التراب عن جلده فاكتسى بصورة البؤس والهوان كما وصفه القرآن بأنه أي المسكين "ذا متربة!".
وكما نلحظ هنا أن القرآن الكريم ذكر تعبيرات "يتيما" و"مسكينا" ومن قبلهما "رقبة"، من دون استخدام أي أدوات تعريف مثل استخدام "ال" قبل الكلمة حتى يعمم المعنى على الجميع أيا كان دينهم أو عقيدتهم؛ فلم يقل القرآن يطعمون اليتيم المسلم أو المسكين المسلم بل قال بصيغة النكرة "أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ... يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ... أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ" كي يسري المعنى على أي يتيم أو أي مسكين! وليس هذا الأمر بمستغرب في القرآن والذي قال أيضا "وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا"(3).
وهنا نجد أنّ القرآن الكريم أعطى أولوية لأمور أخرى، أهملنا بل تجاهلناها عبر العصور!!
ثم يصف لنا القرآن بعد ذلك كيفية اقتحام العقبة الأخيرة لدخول جنات عدن التي وعد الرحمن عباده بالغيب، فكان ذلك بالتحلي بالصبر وبأن يكون الإنسان في قلبه رحمة "وتواصوا بالمرحمة!".
وما أدراكم ما هي الرحمة!
فالرحمة لا تجعل إنسانا يعتدي على آخرين، والرحمة لا تجعله يظلم زوجته، والرحمة لا تسمح له أن يأكل حق غيره في الميراث، والرحمة لا تعطيه مجالا أن يتعصب ضد جاره لأنه مختلف عنه في العقيدة، بل إن الرحمة تدعو إلى العدل والإنسانية ومد اليد بلا تردد لكل من يحتاجها.
والرحمة كنز مكنون وينبوع يفيض بالغيث لكل من لجأ إليه!
وصحيح انّ الله تعالى رحمنٌ رحيمٌ بل أرحم الرّاحمين إلا أنّ رحمته مخصوص للراحمين: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)(4) فرحمة الله المخلوق جالبة لرحمة الخالق سبحانه وتعالى.
فيا ترى من منا قد اقتحم العقبة؟!

المصادر:
(1) سورة البلد.
(2)
التوبة، الآية 60.
(3)
سورة الإنسان، آية 8.
(4)
فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر العسقلاني، ج 3، ص 188.

Plain text

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a> <em> <strong> <span> <blockquote> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd> <br> <hr> <h1> <h2> <h3> <h4> <h5> <h6> <i> <b> <img> <del> <center> <p> <color> <dd> <style> <font> <u> <quote> <strike> <caption>
  • تتحول مسارات مواقع وب و عناوين البريد الإلكتروني إلى روابط آليا.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
1 + 0 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.