-إن الذين تصدوا للفتوى بعد خلافة الامام علي عليه السلام، ما كانوا من الشخصيات الطليعية في المجتمع الإسلامي ، بل إن بعضهم لا يعد حتى من أهل الدرجة الثانية أو الثالثة.
إن بعض من تصدى للفتوى أو كلهم لم يكن يسمح لهم بالفتوى في عهد الخلفاء الثلاثة أبي بكر ، وعمر ، وعثمان . يقول زياد بن ميناء :«...كان ابن عباس ، وابن عمر ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو هريرة ، وعبد الله بن عمرو بن العاص ، وجابر بن عبد الله ، ورافع بن خديج ، وسلمة بن الأكوع ، وأبو واقد الليثي ، وعبد الله بن بحينة ، مع أشباه لهم من أصحاب رسول الله « صلى الله عليه وآله » يفتون بالمدينة ، ويحدثون عن رسول الله « صلى الله عليه وآله » ، من لدن توفي عثمان إلى أن توفوا . والذين صارت إليهم الفتوى منهم : ابن عباس ، وابن عمر ، وأبو هريرة ، وجابر بن عبد الله »[1].
وقد حُظرتْ الرواية على عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عمرو بن العاص.
فأما بالنسبة إلى ابن عمر فقد رووا : أن معاوية قال له : « لئن بلغني أنك تحدث لأضربن عنقك ».[2]
وأما بالنسبة لعبد الله بن عمرو بن العاص ؛ فإنما كان يسمح له بالرواية والفتوى قبل حرب صفين - على ما يظهر - ثم منعه معاوية من الرواية بعدها . وقد استمر هذا المنع إلى عهد يزيد بن معاوية أيضاً.[3]
وأسباب منعهما من الرواية ، هي أن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، كان يروي أحاديث رسول الله في معاوية ، كقوله: لا أشبع الله بطنه . وقوله : اللهم العن القائد ، والسائق ، والراكب . وقوله: يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت حين يموت ، وهو على غير سنتي . فطلع معاوية . وأن تابوت معاوية في النار فوق تابوت فرعون . وقوله : يموت معاوية على غير الإسلام.[4]
وأما عبد الله بن عمرو بن العاص ، فإنه قد أحرج معاوية في صفين بحديث قتل الفئة الباغية لعمار . وبحديث : أنه سيكون ملك من قحطان . فقال معاوية لأبيه ، عمرو : ألا تغني عنا مجنونك ؟.[5]
ايضاً، معاوية كان يتعامل بالربا ، فحاول أن يمنع عبادة بن الصامت من رواية حديث عن النبي « صلى الله عليه وآله » حول تحريم الربا ، فلم يفلح.[6] كما أنهم قد منعوا أبا ذر من الفتيا - منعه عثمان - فلم يمتنع،[7] فواجهوه بأنواع كثيرة من الأذى ، حتى مات غريباً مظلوماً في الربذة ، منفاه.[8]
وخلاصة الأمر : إن الحكام إنما كانوا يسمحون بالفتوى لأشخاص بأعيانهم ، ويمنعون من عداهم من ذلك ، إلا إذا اطمأنوا إلى أنه من مستوى يؤهله لأن ينسجم في ما يفتي به ويرويه ، مع مقاصد الحكم وأهدافه . كما كان الحال بالنسبة لأبي هريرة . وحتى لو سمحوا للبعض بممارسة دوره الفتوائي ، فإن ذلك يبقى مرهوناً بهذا الانسجام ، فإذا ما أخل به أحياناً ، ولو عن غير قصد ، فإنه يمنع من الحديث ، ولو بلغ إلى درجة الإضرار فإنه يهدد بالقتل ، والضرب ، بل وينفى إلى أبغض البلاد إليه . كما كان الحال بالنسبة الى أبي ذر.
المصادر:
[1] - حياة الصحابة ج 3 ص 288 عن الطبقات الكبرى ج 4 ص 187
[2] - صفين للمنقري ص 220
[3] - مسند أحمد بن حنبل ج 2 ص 167
[4] - قاموس الرجال ، ترجمة معاوية
[5] - أنساب الأشراف ( بتحقيق المحمودي ) ج 2 ص 312 - 313
[6] - تهذيب تاريخ دمشق ج 7 ص 215
[7] - حلية الأولياء ج 1 ص 160 وصحيح البخاري ج 1 ص 15 - ط سنة 1309
[8] - دراسات وبحوث في التاريخ والإسلام ج 1 ص 111 - 141