التفكر من مقاصد الشارع الحكيم لأهميته ودوره في ايصال الانسان إلى طريق الحق والتسليم لله تعالى، والإيمان به جل وعلا، وهذا التسليم للحق مما تدعو اليه ضرورة الفطرة السليمة لكل انسان بعد مرحلة التدبر والتامل.
لقد ورد الأمر بالتفكر في القرآن الكريم، والروايات الشريفة في سياقات مختلفة، وموضوعات متنوعة، يجمعها في العموم الحاجة إلى عمق التفكير الموصل إلى الأمر الذي يريده الله تعالى. والحث على التفكر فيه دلالة جليلة وعظيمة على أهمية اعمال النظر والفکر، حيث أن تصرّف القلب في معاني الأشياء يهديه إلی المجهول المطلوب. وقريب من هذا ما قاله السبزواري عن الفكر، فإنه يراه حركة إلى المبادي ومن المبادي إلى المراد(١).
ومن الآيات التي حثت على التفكر وهي كثيرة: قوله سبحانه وتعالى: { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} (٢). وقوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ} (٣). وقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }. (٤).
وهذا التحريض القرآني على التفكر انتهجه أيضا مع المشركين المعاندين بشكل صريح ومباشر ، فقد ناداهم بلغة التفکر والتعقل، وأن يتأملوا فی ملکوت السماوات والأرض لكي يعودوا إلى طريق الحق والإيمان بالله تعالى ورسوله قبل فوات الأوان، کما فی قوله تعالى: { أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ }.(٥). يقول آية الله مكارم الشيرازي في تفسيره الأمثل: "... دعاهم القرآن _اي المشركين_ إلى النظر في عالم الملكوت، عالم السماوات والأرض ... ليعلموا أن هذا العالم الواسع، عالم الخلق ... بنظامه الدقيق المُحيّر المذهل لم يُخلق عبثا، وإنما هناك هدف وراء خلقه ... فالنظر إلى عالم الملكوت ونظامه الكبير الواسع المملوك لله سبحانه يقوي الإيمان بالله والإيمان بالحق. (٦)
وأما الروايات الآمرة بالتفكر فمنها: قول رسول الله صلى الله عليه وآله: "أفضل العبادة إدمان التفكر في الله وفي قدرته" (٧)، والمراد من التفكر في الله في قوله صلى الله عليه وآله فى الرواية هو التفكر في قدرته سبحانه وتعالى وفي صنعه وعجائب أفعاله وفي مخلوقاته وغرائب آثاره، لا التفكر في ذاته عزّ وجلّ، لتواتر النهي عنه، معللاً بأن ذلك يورث الحيرة والدهشة واضطراب العقل.
وروي عن الإمام الصادق عليه السلام قوله: " تفكّر ساعة خير من عبادة سنة"، (إنما يتذكّر أولو الألباب).(٨). والواضح من الرواية أنه من الممكن أنّ لا تبلغ القيمة المعرفیة التي يكتسبها الإنسان من عبادة سنة دون تفكُّر، تلك التي يكتسبها من تفكّر ساعة في صنع الله.
ومن هنا يتبين أن النتيجة المطلوبة الحقّة في أيّ موضوع؛ إنّما تتحصّل بالتفكُّر الدقيق الذي تملأه نورانية البصيرة والخلو من الأمراض والأهواء النفسية، فالتفكر عمليّة تمارس بالقلب والعقل وتشترك فيها الحواس، لا تُقصد بذاتها وإنّما بما يُحصِّلُه المرء مِنها، وهو معرفة الحقائق الباعثة على العمل والطاعة. لذلك قال الطبرسي قدس سره عن قوله تعالى: {وَأَنْـزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُـزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. (٩) بأن هذه الآية فيها دلالة على أن الله تعالى أراد من جمیعهم التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة.(١٠).
ونستخلص مما تقدم ويتبيّن أن التفكر الذي صدحت به الشريعة المقدسة؛ مآله الطاعة والتسليم والانقياد لله رب العالمين، وليس التفكر من أجل التفكر فقط، بل الغاية أعظم وأجل.
___________________
المصادر:
[١]. التحقيق في كلمات القرآن للمصطفوي، ج ٩، ص ١٢٦.
[٢]. سورة الروم، الآية ٨.
[٣]. سورة العنكبوت، الآية ٢٠.
[٤]. سورة الرعد، الآية ٣.
[٥]. سورة الأعراف، الآية ١٨٥.
[٦]. تفسیر الأمثل، ج ٥، ص٣١٦_٣١٧.
[٧]. جامع السعادات، ج ١، ص ١٦١.
[٨]. ميزان الحكمة، ج ٣، ص ٢٤٦٥.
[٩]. سورة النحل، الآية ٤٤.
[١٠]. مجمع البيان، ج ٦، ص ١٥٩.