الفتن

19:01 - 2022/06/20

- إن فتن الدنيا كثيرة ، والإنتصار عليها يحتاج إلى توفيق إلهي.

الفتن

 نتناول موضوع الفتن في عدة جوانب:

الجانب الأول: مرادنا من لفظ الفتن

إن المتبادر للوهلة الأولى من لفظة (الفتن) هي الأمور التي تُلبس على الإنسان الحق من الباطل في آخر الزمان، كما هو الغالب في لسان الروايات الشريفة ومن ذلك ما روت عميرة بنت نفيل أنها قالت: سمعت "الحسين بن علي (عليهما السلام) يقول: لا يكون الأمر الذي تنتظرونه حتى يبرأ بعضكم من بعض، ويتفل بعضكم في وجوه بعض، ويشهد بعضكم على بعض بالكفر، ويلعن بعضكم بعضا. 

فقلت له: ما في ذلك الزمان من خير؟ فقال الحسين (عليه السلام): الخير كله في ذلك الزمان ، يقوم قائمنا ويدفع ذلك كله ". [١]. إشارة منه عليه السلام إلى الاختلاف الشديد الذي سيقع في آخر الزمان بين المسلمين والتباس الحق بالباطل إلا من عصمه الله تعالى. غير أن هذا المعنى ليس مرادنا، فإن قصدنا ما يرادف الإبتلاء والإمتحان، وهو أحد المعاني الكثيرة للفظ في الكتاب العزيز، كقوله تعالى :{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }.[٢]. أي أن اخضاع النفس المؤمنة وتمحيصها من الشوائب والأدران والذنوب بالفتن سنة دنوية لاتتخلّف. 

الجانب الثاني : طبيعة حياة الدنيا:

اعلم رحمك الله تعالى أن هذه الدنيا دار بلاء وامتحان وفتن ، والفتن بالمعنى الذي أسسنا عليه هي أعظم درجات الابتلاء والإختبار كما قيل ، فتمحيص الإنسان واستخلاص معدنه الحقيقي -كما يُستخلص الذهب بفتنته في النار- لايكون إلا بالفتن، فهذه طبيعة السير إلى رضوان الله ونيل مآب الآخرة، فلا يوجد فوق أديم الارض إلا مفتون بالشر ليصبر، أو مفتنون بالخير ليشكر { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً }.[٣]. فكل البشر في قاعة الامتحان . فطريق الحياة شاق وصعب، وخوضه يستلزم العناء والألم والمشاكل، في كافة خطوات المسير ولا يستثنى من ذلك الروح أو البدن، بل كليهما وبكلّ ما يحملان من جوارح وجوانح لا يخلوان من التأثر بهذه الطبيعة الحاكمة على الحياة الدنيا.

ويحدثنا الإمام علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام عن ذلك فيما رُوي عنه أنّه قال: "الراحة لم تُخلق في الدنيا ولا لأهل الدنيا، إنّما خُلقت الراحة في الجنّة ولأهل الجنّة، والتعب والنصب خلقا في الدنيا، ولأهل الدنيا، وما اُعطي أحد منها جفنة إلاّ أعطى من الحرص مثليها، ومَن أصاب من الدنيا أكثر، كان فيها أشد فقراً لأنّه يفتقر إلى النّاس في حفظ أمواله، ويفتقر إلى كلّ آلة من آلات الدنيا، فليس في غنى الدنيا راحة...".[٤].

الجانب الثالث: هل الناس سواسية في الفتن؟

إن فتن الدنيا وابتلاءاتها تسلط على العبد بحسب قربه من الله تعالى وتقواه ، فأشد الناس فتنة وبلاء هم الأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام والمؤمنون فالأمثل فالأمثل، كما الروايات الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام،فقد رُوي عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: إن في كتاب علي عليه السلام: أن أشد الناس بلاء النبيون، ثم الوصيون، ثم الأمثل فالأمثل، وإنما يبتلي المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صح دينه وحسن عمله اشتد بلاؤه، وذلك ان الله عز وجل لم يجعل الدنيا ثوابا لمؤمن ولا عقوبة لكافر، ومن سخف دينه وضعف عمله قل بلاؤه وإن البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض.[٥]. والروايات في ذلك كثيرة.الفتن

الجانب الرابع: كيف نجتاز مرحلة الفتن والإبتلاء؟

أمام حقيقة الفتن والإبتلاء التي لامناص منها فإن الإنسان كما أشرنا سابقا إما أن يُفتن ويُمتحن بالشر، فليس له في هذه الحالة إلا التوكل على الله والإستعانة به ومصاحبة الصبر، فإن بذلك يُحصّلُ الإِنسان الإِرادة القوية والإِيمان الراسخ والقدرة على الثبات وعدم السخط ولعن الدنيا والأقدار المكتوبة. إن الصبر على المحن والبلاء من علامات البر كما بيّن القرآن ، حيث ذكر من جملة ما ذكر في هذا الباب؛ الصبر كما في قوله تعالى { لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ }. [٦].

وإما أن يُفتن بالخير فواجبه أن يشكر فإن في ذلك خير الدنيا والآخرة. يقول الإمام علي عليه السلام: ثلاث من كن فيه فقد رزق خير الدنيا والآخر، هن: الرضا بالقضاء، والصبر على البلاء، والشكر في الرخاء. [٧]. فلابد للمؤمن من الفتن وعندها إما صابر أو شاكر.

ولا بأس ختاما من الإشارة إلى أن الفتن والإبتلاءات بالنسبة للأنبياء والرسل والأئمة عليهم السلام هي زيادة درجات لعصمتهم، أما لغيرهم من الأولياء والمؤمنين فهي تفْتيتُ ذنوبٍ وسيئاتْ. 

___________

المصادر :

[١]. غيبة الطوسي: ٤٣٧، ح ٤٢٩.

[٢]. سورة العنكبوت ، الآية2.

[٣]. سورة الأنبياء ، الآية35.

[٤]. الأمثل ، ج ٢٠ ، ص٥٩_٦٠.

[٥]. موسوعة أحاديث أهل البيت علیه السلام ، الشيخ هادي النجفي ، ج ٢، ص٨٣.

[٦] . سورة البقرة ، الآية ١٧٧.

[٧]. ميزان الحكمة، ج ١، ص٨٤٠.

Plain text

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a> <em> <strong> <span> <blockquote> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd> <br> <hr> <h1> <h2> <h3> <h4> <h5> <h6> <i> <b> <img> <del> <center> <p> <color> <dd> <style> <font> <u> <quote> <strike> <caption>
  • تتحول مسارات مواقع وب و عناوين البريد الإلكتروني إلى روابط آليا.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
5 + 2 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.