-وبديهي أن تكون المجادلة والمناظرة ذات جدوى إذا كانت بالتي هي أحسن
من هدي القرآن الكريم ومقاصده في بيان أسلوب التعامل مع منكري الإسلام وطريق الله وشرع والمذهب الحق أن تبسط لهم يد الرحمة والطيب واللطف والترغيب لا سيف البطش والطيش والفظاظة والترهيب. لأن مثل هذا الأسلوب هو الذي ينتج ويعطي الثمار ويوصل إلى الغايات والأهداف الإلهية التي من أجلها بعث الله سبحانه وتعالى الأنبياء والرسل والتي هي الإذعان للحق.
القرآن بسط قانون الحوار في سبيل الدعوة إلى الله تعالى
ينبغي أن يشتمل الحوار الذي يراد منه هداية الغير وارشاده إلى الحق على عدة ركائز أساسية، وقد صور لنا القرآن الكريم لنا هذه الركائز بأروع بيان، فقال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}[1].
فالآية الكريمة تبين الركائز والأسس الأخلاقية التي ينبغي التحصن بها عند مواجهة المخالفين وغير المسلمين على أساس منطقي، ومن تلك الركائز والأسس كما وضحت الآية ثمة ثلاث خطوات:
الخطوة الأولى: الحكمة
فأول خطوة على طريق الدعوة إلى الحق هي التمكن من الاستدلال وفق المنطق السليم، أو النفوذ إلى داخل فكر الناس والمخالفين ومحاولة تحريك وإيقاظ عقولهم، كخطوة أولى في هذا الطريق، لذلك كانت الحكمة وهي تعني العلم والمنطق والاستدلال، وهي في الأصل بمعنى (المنع) وقد أطلقت على العلم والمنطق والاستدلال لقدرتها على منع الإنسان من الفساد والانحراف.
الخطوة الثانية: الموعظة الحسنة
وفي الخطوة الثانية كان تقييد الدعوة إلى سبيل الله بالموعظة الحسنة بالاستفادة من عملية تحريك الوجدان الإنساني، وذلك لما للموعظة الحسنة من أثر دقيق وفاعل على عاطفة الإنسان وأحاسيسه، وتوجيه مختلف طبقات الناس نحو الحق.
وتقييد الموعظة بقيد الحسنة لعله إشارة إلى أن النصيحة والموعظة إنما تؤدي فعلها وأثرها على الطرف المقابل إذا خليت من أية خشونة أو استعلاء وتحقير التي تثير فيه حس العناد واللجاجة وما شابه ذلك.
وفي الحقيقة فإن " الحكمة " تستثمر البعد العقلي للإنسان، و " الموعظة الحسنة " تتعامل مع البعد العاطفي له.
الخطوة الثالثة: الجدال بالتي هي أحسن.
وهذه تختص بتخلية أذهان الطرف المخالف من الشبهات العالقة فيه والأفكار المغلوطة ليكون مستعدا لتلقي الحق عند المناظرة.
وبديهي أن تكون المجادلة والمناظرة ذات جدوى إذا كانت بالتي هي أحسن، أي أن يحكمها الحق والعدل والصحة والأمانة والصدق، وتكون خالية من أية إهانة أو تحقير أو تكبر أو مغالطة، وبعبارة شاملة: أن تحافظ على كل الأبعاد الإنسانية السليمة عند المناظرة.
وفي ذيل الآية الكريمة يشير القرآن إلى أن وظيفة الداعي والمبلغ هي الدعوة إلى طريق الحق بالطرق الثلاثة المتقدمة، أما مسألة من الذي سيهتدي ومن سيبقى على ضلاله، فعلم ذلك عند الله وحده سبحانه.
وثمة احتمال آخر في مقصود هذه الجملة وهو بيان دليل للتوجيهات الثلاث المتقدمة، أي: إنما أمر سبحانه بهذه الأوامر الثلاثة لأنه يعلم الكيفية التي تؤثر بالضالين لأجل توجيههم وهدايتهم[2].
ذُكر عند الإمام الصادق عليه السلام الجدال في الدين وأن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، والأئمة عليهم السلام قد نهوا عنه، فقال الصادق عليه السلام: "لم ينه عنه مطلقا ولكنه نهي عن الجدال بغير التي هي أحسن، أما تسمعون الله عز وجل يقول: {وَلاٰ تُجٰادِلُوا أَهْلَ الْكِتٰابِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[3] ، وَ قَوْلَهُ تَعَالَى: (ُدْعُ إِلىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جٰادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ؟ فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين، والجدال بغير التي هي أحسن محرم، حرمه اللّه تعالى على شيعتنا، وكيف يحرم اللّه الجدال جملة وهو يقول: { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى.. وقال الله: تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}[4]؟فجعل اللّه علم الصدق والإيمان بالبرهان، وهل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالتي هي أحسن؟..[5] فتأمل.
_______
المصادر:
[1] سورة النحل، الآية125.
[2] انظر الأمثل، الشيخ مكارم الشيرازي، ج٨، ص٣٦٨. مع التصرف.
[3] سورة العنكبوت، الأىية46.
[4] سورة البقرة، الآية111.
[5] تفسير البرهان، السيد هاشم البحراني، ج3، ص464.