من کان باذلا فینا مهجته و موطّنا علی لقاء الله نفسه فلیرحل معنا.
عادة ما يكون نعي الإنسان بإخبار غيره، أما هذه القاعدة تغيرت عندما صدح الإمام الحسين عليه السلام قبل المسير إلى كربلاء بنداء الحق ونطق بلسان الصدق عما سيحصل معه في كربلاء في خطبة مشهودة، فراح يعظ ويخبر ويقيم الحجة. وهذا من دلائل الكرامات التي أوتيها الإمام سلام الله عليه.
الإمام الحسين عليه السلام ينعي نفسه
قال الإمام الحسين عليه السلام ناعيا نفسه قبل المسير إلى كربلاء: "الحمد للّه و ما شاء اللّه و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، صلّى اللّه على رسوله و سلّم، خطّ الموت على ولد آدم مخطّ القلادة على جيدة الفتاة، و ما أولهني إلى أسلافي اشتياق يعقوب إلى يوسف، و خيّر لي مصرع أنا لاقيه، كأنّي بأوصالي تقطّعها عسلان الفلوات بين النواويس و كربلاء فيملأنّ منّي أكراشا جوفا، وأجربة سغبا لا محيص عن يوم خطّ بالقلم، رضي اللّه رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه و يوفّينا أجور الصابرين، لن يشذّ عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لحمته، و هي مجموعة له في حظيرة القدس تقرّ بهم عينه، و ينتجز لهم وعده، من كان فينا باذلا مهجته و موطنا على لقاء اللّه نفسه فليرحل فإنّي راحل مصبحا إن شاء اللّه".[1]
هذه الخطبة جزء من وصية للإمام الحسين عليه السلام قبل معركة كربلاء، وتتضمن عدة معاني عميقة وأفكار تأملية تُعبر عن إيمانه عليه السلام وصبره واستعداده للتضحية في سبيل الله تعالى. نشير في الأسطر التالية إلى بعض الفوائد المعرفية المستخلصة:
أولا: الاعتراف بحكم الله
يبدأ الإمام الحسين بتمجيد الله وشكره، مع الاعتراف بأن كل شيء يحدث بمشيئته، مما يعكس إيمانه العميق بقضاء الله وقدره، { وَقُلِ ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی لَمۡ یَتَّخِذۡ وَلَدࣰا وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ شَرِیكࣱ فِی ٱلۡمُلۡكِ وَلَمۡ یَكُن لَّهُۥ وَلِیࣱّ مِّنَ ٱلذُّلِّۖ وَكَبِّرۡهُ تَكۡبِیرَۢا}[2]
ثانيا: الموت مقدر
تحدث الإمام عليه السلام عن حقيقة الموت بأنه مقدر لبني آدم، مشبهاً إياه بخيط يتم رسمه بعناية، وأن الموت ليس نهاية بل هو جزء من الحياة، {كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ}[3]
ثالثا: إخبار غيبي عن مصرعه الشريف
حيث أشار عليه السلام عما سيلاقيه، فأنبأ عما سيحدث له عليه السلام، ووصف الفاجعة والكرب، وحجم المعاناة التي سيعاني منها، مشبهاً ما سيحدث له بتقطيع أوصاله عليه السلام، {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}[4]
رابعا: مواجهة القدر بصبر
يؤكد الإمام الحسين عليه السلام على الصبر والثبات في مواجهة البلاء، مُستدلاً بأهل البيت الذين يرضون بما كتبه الله لهم، {وَٱلصَّـٰبِرِینَ فِی ٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَحِینَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ}[5]
خامسا: دعوة للبطولة
يوجه الإمام الحسين عليه السلام دعوة لمن لديه الاستعداد للتضحية بنفسه من أجل الله تعالى وفي طريق الله تعالى، ليكون جزءاً من المسيرة المقدسة التي سينطلق فيها الإمام الحسين عليه السلام، فقد خطط للرحيل مع الفجر، {وَكَأَیِّن مِّن نَّبِیࣲّ قَـٰتَلَ مَعَهُۥ رِبِّیُّونَ كَثِیرࣱ فَمَا وَهَنُوا۟ لِمَاۤ أَصَابَهُمۡ فِی سَبِیلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا۟ وَمَا ٱسۡتَكَانُوا۟ وَٱللَّهُ یُحِبُّ ٱلصَّـٰبِرِینَ}[6]
إلى غير ذلك مما أعرضنا عنه روما للإجمال. ويبقى هذا الكلام يعكس روح الإمام الحسين عليه السلام، وإيمانه العميق، واستعداده للتضحية في سبيل القيم والمبادئ، مما جعله رمزا للثبات والشجاعة في مواجهة الظلم والظالمين.
________
المصادر:
[1] مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص29.
[2] سورة الإسراء، الآية111.
[3] سورة آل عمران، الآية185.
[4] سورة يوسف، الآية102.
[5] سورة البقرة، الآية177.
[6] سورة آل عمران، الآية146.