تعلية القباب

10:01 - 2021/05/03

ابن الحجّاج البغدادی (262- 392 ه) أنشأ قصیدته الفائیة فی مدح الإمام أمیر المؤمنین، وأنشدها فی الحضرة العلویّة وهي تعرب عن وجود البناء والقبّة البیضاء علی القبر.

رفع القباب,بناء القبور,الشيعة

لا يخفى على من أمعن النظر، وتتبّع الآثار والسير، أنّ الأزمنة مختلفة الأحوال بالنسبة إلى جميع الأقوال والأفعال، فربّ شيءٍ كان في قديم الزمان في أعلى مراتب الأستحسان، فانعكس وصار أدنى ما يكون أو كان.
وحيث أنّ الشارع حكيم، وبالعباد رحيم، يراعي أحوالهم، ففي مبدأ الأسلام لما كان المعاش ضيّقاً، والأسعار متصاعدة في المآكل والملابس، حافظ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، والصحابة في أيامهم على المآكل الجشبة، والملابس الخشنة أو الخلقة، لئلا تنكسر قلوب الفقراء، ولتطيب نفوسهم، فانهم إذا رأوا سيد الجميع لابساً رثّ اللباس، وآكلاً أدنى المأكول، إستقرت نفوسهم، وأطمئنت قلوبهم، وارتفعت كدورتهم.
ثم لمّا توسعت أحوال الناس، وقوي الأسلام، ورخصت الأسعار، استعمل الأكثر من الخلفاء أحسن الملبوس، وأكلوا أطيب المأكول، وهذا التعليل مستفاد من الأخبار أيضاً.
لذلك نقول في أمر بناء (المساجد) و(الحضرات)، فانهم كانوا لا يرفعون البناء، ولا يزينون الدور، لما بهم من القصور، فإذا كانت بيوت الله، وبيوت أنبيائه لم يرفع بناؤها طابت نفوس الفقراء، واطمئنّت قلوبهم.
وأما في مثل هذه الأيام ونحوها، حيث ارتفع بناء الدور، فلا وجه لجعل بيوت الله أخفض منها، ومن يرضى بتعلية بيوت الخلق على بيوت الخالق مع أنّ في تعليتها تعظيماً لشعائر الله، وهي البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها إسمه.
و(القباب) منها، لأنّها جعلت للعبادة، وليس في بناء القباب تجديد قبر، لأنّ القبر باق على حاله لم يجدد، وإنّما وضع أساس القبة بعيداً عنه، ليكون فيها علامة على (المزار) الذي ندب إلى زيارته العزيز الجبار، ولتكون ظلالاً للزائرين، فلا تدخل في باب التجديد أصلاً، وكذا صندوق الخشب، فانه أجنبي عن القبر لا دخل له به.
وعن كلّ حال فأصل وضع البناء لهذه المقاصد الجليلة ليس فيه بأس أصلاً، ولو تركت العلامات ما أمكن التوصل الى زيارة أكثر الأموات لاندراس آثارهم، فوضع هذا للتمكن من إدراك فضيلة زيارة القبور، وكلما كان الشاهد أحكم، كانت دلالته على المشعر أدوم.
وأما قضية (الزينة) فقد روي عن علي (عليه السلام) أنّ بعض الصحابة أشاروا على عمر أن يأخذ زينة الكعبة ليقوي بها جيوش المسلمين، فقال له علي (عليه السلام): إنّ الأموال قسّمها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الفقراء، وكانت في ذلك اليوم الحليّ موجودة ولم يقسّمها، فلا تخالف وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال عمر: "لولاك إفتضحنا"، وأبقى الحليّ على حالها.
والأصل في بناء القباب وتعميرها، ما رواه البناني (واعظ أهل الحجاز) عن جعفر ابن محمد، عن أبيه، عن جده الحسين، عن أبيه علي أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال له: والله لتقتلن في أرض العراق، وتدفن بها. فقلت: يا رسول الله ما لمن زار قبورنا وعمّرها وتعاهدها. فقال لي: يا أبا الحسن إن الله جعل قبرك وقبر ولديك بقاعاً من بقاع الجنة، وإن الله جعل قلوب نجباء من خلقه، وصفوة من عباده تحن إليكم، ويعمرون قبوركم، ويكثرون زيارتها، تقرباً الى الله تعالى، ومودةً منهم لرسوله. يا علي من عمّر قبوركم وتعاهدها، فكأنما أعان سليمان بن داود على بناء بيت المقدس، ومن زار قبوركم عدل ذلك ثواب سبعين حجة بعد حجة الأسلام، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
ونقل نحو ذلك أيضاً في حديثين معتبرين: نقل أحدهما الوزير السعيد بسند، وثانيهما بسندٍ آخر غير ذلك السند، ورواه أيضاً محمد بن علي بن الفضل.
فبعد دلالة هذه الأخبار على تعمير (القباب)، واستمرار طريقة الأصحاب، مع أنها داخلة في المواضع المعدّة للطاعات، كالمساجد، والمدارس، والرباطات، مع أنّ فيها تعظيماً لشعائر الأسلام، وإرغاماً لمنكري دين النبي عليه الصلاة والسلام.
وبعد أن بيّنا أنّ الحكم والمصالح تختلف بأختلاف الأوقات، وذكرنا إعتضاد ذلك بالروايات، لم يبق بحث من جميع الجهات.
وعلى تقدير ثبوت الخطأ في هذا الباب، لا يلزم على المخطىء تكفير ولا عصيان، بل ربما يثاب، لأن الخالي من التقصير وإن إتصف بالقصور معذور كل العذر، بل هو مأجور.
فيا أخي لا تعارض المسلمين فيما هم عليه إن لم تركن إلى ما ركنوا اليه، وأحملهم على المحامل الحسان، فأنّا هكذا أمرنا بحمل الأخوان، وفقنا الله وإياكم، وهدانا وهداكم، والله ولي التوفيق.[1]
ثم إنّ الحسین بن أحمد بن محمد المعروف بابن الحجّاج البغدادی أحد الشعراء المفلقین فی القرنین الثالث والرابع (262- 392 ه) أنشأ قصیدته الفائیة فی مدح الإمام أمیر المؤمنین، وأنشدها فی الحضرة العلویّة عندما زارها یقول فی مستهلّها:
یاصاحب القبّة البیضاء علی النجفِ*من زارَ قبرک واستشفی لدیک شُفی
زوروا أبا الحسن الهادی لعلّکم* تحظون بالأجر، والاقبال والزلف
والقصیدة تعرب عن وجود البناء والقبّة البیضاء علی القبر، والزلف والتفاف الزائرین حوله فی عصره، ومع ذلک یدّعی بعض الوهابیین، أنّ البناء علی القبور لم یکن فی خیر القرون وأنّه من البدع المستحدثة.
ولأجل شیوع البناء علی القبور فی جمیع الأقطار الإسلامیّة نجد أنّ الأمیر محمد بن اسماعیل الیمانی الذی توهّب مع کونه زیدیاً یفترض علی نفسه ویقول فی کتابه: وهذا أمر عمّ البلاد وطبق الأرض شرقاً وغرباً بحیث لا بلدة من بلاد الإسلام إلّافیها قبور ومشاهد، ولا یسع عقل عاقل أنّ هذا منکر یبلغ إلی ما ذکرت من الشناعة ویسکت علماء الإسلام.[2]
فلو کانت هذه سیرة المسلمین من خیر القرون إلی عصرنا فلماذا لا تکون حجّة؟ فلو کان التهدیم أمراً واجباً فلماذا ترک الخلفاء تلک الفریضة؟! فهل یصحّ لنا اتّهامهم بالتسامح فی أمر الدین مع أنّ الصحابة والتابعین مرّوا علی تلک الآثار ولم ینبسوا فیها ببنت شفة؟وإذا لم یکن ذلک الإجماع حجّة، فأیّ إجماع یکون حجّة شرعیّة؟

المصادر:
1. منهج الرشاد لمن أراد السداد كاشف الغطاء، ج1، ص76.
2. الأمیر محمد بن اسماعیل الیمانی ت 1186 ه تطهیر الاعتقاد: 17، ثمّ إنّه حاول أن یُجیب عن هذا الاستنکار بما الإعراض عن ذکره أحسن.

Plain text

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a> <em> <strong> <span> <blockquote> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd> <br> <hr> <h1> <h2> <h3> <h4> <h5> <h6> <i> <b> <img> <del> <center> <p> <color> <dd> <style> <font> <u> <quote> <strike> <caption>
  • تتحول مسارات مواقع وب و عناوين البريد الإلكتروني إلى روابط آليا.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
4 + 4 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.