الملخص: إن الآثار المتبقية في ارجاء العالم من الأمم السابقة ما هي إلّا و ثائق التاريخ الحية و الناطقة. بل هي قادرة على أن تعطينا من الحقائق و الأسرار أكثر ممّا يعطينا التاريخ المدون.
إن الآثار المتبقية في ارجاء العالم من الأمم السابقة ما هي إلّا و ثائق التاريخ الحية و الناطقة. بل هي قادرة على أن تعطينا من الحقائق و الأسرار أكثر ممّا يعطينا التاريخ المدون.
إن الآثار الباقية من العصور السالفة بما فيها من أشكال و صور و نقوش و كيفيات تدلنا على ما كانت تتمتع به الأمم البائدة من الفکر و الرؤی و الثقافات و المبادئ، في حين لا يجسّد التاريخ المدون سوى الحوادث الواقعة و سوى صور خاوية عنها.
أجل، إن خرائب قصور الطغاة و بقايا آثار عظيمة مثل الأهرام، و برج بابل، و قصور كسرى، و آثار الحضارة المندثرة لقوم سبأ، و مئات من نظائرها من هذه الآثار المنتشرة في شتى أنحاء هذا الكوكب تنطوي- رغم صمتها- على ألف حديث و حديث، و ألف كلمة و كلمة.
إن مطالعة سطر واحد من هذه التواريخ الحية الناطقة تعادل- في الحقيقة- مطالعة كتاب ضخم في مجال التاريخ، و أن ما تبعثه تلك المطالعة في النفس و الروح البشرية لا يقاس به شيء مهما عظم.
ذلك لأننا عند ما نقف أمام آثار الماضين تتمثل أمامنا تلك الآثار و كأنها قد استعادت حياتها، و دب فيها الروح، و كأن العظام النخرة قد خرجت من تحت الأرض حية، و كأن كلّ شيء قد عاد إلى سيرته الأولى، و كأن جميع الأشياء تنطق و تتحدث، ثمّ إذا أعدنا النظر وجدناها صامتة ميتة منسية، و هذه المقايسة بين هاتين الحالتين ترينا غباء أولئك المستبدون الذين يرتكبون آلاف الجرائم، و أفظع الجنايات للوصول إلى الشهوات العابرة، و اللذائذ الخاطفة.
و لهذا يحث القرآن المسلمين على السير في الأرض، و النظر إلى آثار الماضين المدفونة تحت التراب أو الباقية على ظهر الأرض بأم أعينهم، و أن يتخذوا من كلّ ذلك العظة و العبرة و ما أكثر العبر.
أجل، إن الإسلام يقر مسألة السياحة و السير في الأرض، و يوليها أهمية كبرى، لكن لا كما يريد السياح و طلاب اللذة و الهوى، بل دراسة آثار الماضية و التدبر فيها، و الإعتبار بها، و الوقوف على آثار العظمة الإلهية في شتى نقاط العالم و هذا هو ما يسميه القرآن الكريم بالسير في الأرض، و الذي تأمر به الآيات العديدة، منها:
1- قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [النمل: 71].
2- أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها [الحج: 46]
3- قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنکبوت: 20]
إن هذه الآية تقول بأن السير في الأرض و النظر في آثار الماضيين يفتح العقول و العيون، و ينير القلوب و الأفئدة، و يخلص الإنسان من الجمود و الركود.
و قد أشار الإمام علي أمير المؤمنين عليه السّلام إلى هذه الحقيقة فی أبیات عدة:
تغرّب عن الأوطان فی طلب العُلی/ و سافر ففی الأسفار خمس فوائد
تفرّج هم و اکتساب معیشة/ و علم و آداب و صحبة ماجد
و لكن هذا التعليم الإسلامي الحي قد نسي- مع الأسف- كبقية التعاليم الإسلامية و لم يلتفت إليه المسلمون، بل إنّ بعض العلماء و المفكرين الإسلاميين حصروا الزمان و المكان في فكرهم، فعاشوا في عالم غير عالم الحياة هذا، و بقوا بمعزل عن التحولات الاجتماعية، و أشغلوا أنفسهم بأمور حقيرة و قضايا جزئية قليله الأثر بالقياس إلى الأعمال الجوهرية و القضايا الأساسية.
المصادر:
الامثل فی تفسیر کتاب الله المنزل، ج2، ص704.
دیوان علی بن ابیطالب علیه السلام، ص59.