توبوا إلى الله قبل فوات الأوان

11:44 - 2016/12/01

بين الفينة و الأخرى تنقضّ الذنوب و المعاصي على العبد -خاصّةً في مستهل توجّهه و سلوكه إلى اللّه- و طالما أغلقت أبواب العودة و الرجوع بوجهه، فإنّه سيبقى في نهجه هذا إلى الأبد. و لهذا نجد الإسلام قد عبّد الطريق للعودة و فتح باباً لتدارك الزلل و سمّاه «التوبة»، و دعا جميع المذنبين و المقصّرين إلى دخول هذا الباب لتعويض و اصلاح الماضي و حذرهم الله تعالى عن اليأس عن رحمته بمختلف العبائر.

التوبة,استغفار,التوبة الحقيقية

بين الفينة و الأخرى تنقضّ الذنوب و المعاصي على العبد -خاصّةً في مستهل توجّهه و سلوكه إلى اللّه- و طالما أغلقت أبواب العودة و الرجوع بوجهه، فإنّه سيبقى في نهجه هذا إلى الأبد. و لهذا نجد الإسلام قد عبّد الطريق للعودة و فتح باباً لتدارك الزلل و سمّاه «التوبة»، و دعا جميع المذنبين و المقصّرين إلى دخول هذا الباب لتعويض و اصلاح الماضي و حذرهم الله تعالى عن اليأس عن رحمته بمختلف العبائر، منها قوله تعالى: «إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُون»[1] و قوله تعالى: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذينَ أَسْرَفُوا عَلى‏ أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَميعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحيمُ»[2] إلى غير ذلك من الآي الكريمة.
و قد شدّدت الروايات على أهميّة التوبة إلى الحدّ الذي نقرأ في الحديث عن الإمام الباقر (عليه السّلام) أنّه قال: « إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشَدُّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ‏ رَجُلٍ‏ أَضَلَ‏ رَاحِلَتَهُ‏ وَ زَادَهُ فِي لَيْلَةٍ ظَلْمَاءَ فَوَجَدَهَا».[3]
كلّ هذه الروايات العظيمة تحثّ و تؤكّد على هذا الأمر الحياتي المهمّ، لكن ينبغي التوكيد على أنّ التوبة ليست مجرّد لقلقة لسان و تكرار قول «أستغفر اللّه» و إنّما للتوبة شروط و أركان و كلّما تحقّقت التوبة بتلك الشروط و الأركان فإنّها ستؤتي أكلها و تعفي آثار الذنب من قلب و روح الإنسان تماما، و لذا ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السّلام: «التَّائِبُ‏ مِنَ‏ الذَّنْبِ‏ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ وَ الْمُقِيمُ عَلَى الذَّنْبِ وَ هُوَ مُسْتَغْفِرٌ مِنْهُ كَالْمُسْتَهْزِئ‏»[4] و كما قال الإمام علي (عليه السلام) لمن تفوّه عنده بـأستغفر الله: «ثَكِلَتْكَ‏ أُمُّكَ!‏ أَ تَدْرِي‏ مَا الِاسْتِغْفَارُ؟ الِاسْتِغْفَارُ دَرَجَةُ الْعِلِّيِّينَ ...».[5] 
نعم، مجرد التلفظ بالإستغفار لا يجدي شيئاً، بل التوبة الحقیقیة في حلبة العمل، التي سمیت بالتوبة النصوح في القرآن، قال الله سبحانه و تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى‏ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُم».[6]
ولكن يتسائل: كيف تتحقق التوبة النصوح و ما هو شروطها؟ أجاب الإمام الصادق (عليه السلام) عن هذا السؤال بـأنه يجب «أَنْ يَغْسِلَ‏ [التائب] بَاطِنَهُ مِنَ الذُّنُوبِ بِمَاءِ الْحَسْرَةِ وَ الِاعْتِرَافِ بِجِنَايَتِهِ دَائِماً وَ اعْتِقَادِ النَّدَمِ عَلَى مَا مَضَى وَ الْخَوْفِ عَلَى مَا بَقِيَ مِنْ‏ عُمُرِهِ وَ لَا يَسْتَصْغِرَ ذُنُوبَهُ فَيَحْمِلَهُ ذَلِكَ إِلَى الْكَسَلِ وَ يُدِيمَ الْبُكَاءَ وَ الْأَسَفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَ يَحْبِسَ نَفْسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ وَ يَسْتَغِيثَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِيَحْفَظَهُ عَلَى وَفَاءِ تَوْبَتِهِ وَ يَعْصِمَهُ عَنِ الْعَوْدِ إِلَى مَا أَسْلَفَ وَ يُرَوِّضَ نَفْسَهُ فِي مَيْدَانِ الْجُهْدِ وَ الْعِبَادَةِ وَ يَقْضِيَ عَنِ الْفَوَائِتِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَ يَرُدَّ الْمَظَالِمَ وَ يَعْتَزِلَ قُرَنَاءَ السَّوْءِ وَ يَسْهَرَ لَيْلَهُ وَ يَظْمَأَ نَهَارَهُ وَ يَتَفَكَّرَ دَائِماً فِي عَاقِبَتِهِ وَ يَسْتَعِينَ بِاللَّهِ سَائِلًا مِنْهُ الِاسْتِقَامَةَ وَ سَرَّاءَهُ وَ ضَرَّاءَهُ وَ يَثْبُتَ عِنْدَ الْمِحَنِ وَ الْبَلَاءِ كَيْلَا يَسْقُطَ عَنْ دَرَجَةِ التَّوَّابِينَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ طَهَارَةً مِنْ ذُنُوبِهِ وَ زِيَادَةً فِي عِلْمِهِ وَ رِفْعَةً فِي دَرَجَاتِه‏».[7]
و لا بأس بأن نذكر قصة بشر الحافي كنموذج، حيث وفقه الله للتوبة النصوح؛ روي أنه كان أوّل أمره يتعاطى الخمر و منهمكاً فی صحبة الغواني و استماع الأغاني و الطرب و المجون. ذات يوم اجتاز الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام) على داره ببغداد، فسمع الملاهي و أصوات الغناء و الرقص و الناي تعلو من داره، و خرجت أثناء ذلك جارية بالقُمامة تريد إلقاءها خارج الدار، فسألها الإمام (عليه السلام): يَا جَارِيَةٌ! صَاحِبُ هَذَا الدَّارِ حُرٌّ أمْ عَبْدٌ؟! فَقَالَتْ: بَلْ حُرٌّ. فَقَالَ (عَلَيْهِ السَّلَامُ): صَدَقْتِ لَوْ كَانَ عَبْداً، خَافَ مِنْ مَوْلَاهُ. فدخلت الجارية الدار، و كان مولاها على مائدة السُّكْر، فقال لها: ما أبطأك؟ فقالت: حدّثني رجل بكذا و كذا. و ما إن قالت ذلك حتى خرج بشر مُسرعاً حافياً يبحث عنه إلى أن لحق بمولانا الإمام الكاظم (عليه السلام) فاعتذر منه و بكى و تاب على يده و أصبح من الصلحاء و الزهاد.
و المسالة التي يجب الإنتباه إليها هي أنه لا يسوغ التسويف في التوبة و إيكالها إلى الغد و ما بعده، إذ ما هي الضمانة لأن يكون لك غد؟ ألم تر أن الموت يأتي بغتة و لا يخبر أحدا؟! أليست القبور تحتضن الموتى مع أمانيهم؟! ألم تشاهد الموتى منسيين تحت أكداس من التراب؟ لذا يجب علينا أن نشمر عن ساعد الجهد و نتوب إلى الله توبة نصوحاً قبل فوات الأوان. 

المصادر:
[1]. يوسف: 12، الآية 87.
[2]. الزمر: 39، الآية 53.
[3]. «الكافي»، الكليني الرازي، محمد بن يعقوب، طهران، دار الكتب الاسلامية، الطبعة الرابعة، 1407هـ، ج2، ص435.
[4]. المصدر، ج2، ص435.
[5]. «نهج البلاغة، لصبحي الصالح»، الشريف الرضي، محمد بن الحسين، قم، هجرت، الطبعة الاولى، 1414هـ، ص549، الحكمة417.
[6]. التحريم: 66، الآية 8.
[7]. «مصباح الشريعة»، منسوب إلى الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، الطبعة الاولى، 1400هـ، ص97.

Plain text

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a> <em> <strong> <span> <blockquote> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd> <br> <hr> <h1> <h2> <h3> <h4> <h5> <h6> <i> <b> <img> <del> <center> <p> <color> <dd> <style> <font> <u> <quote> <strike> <caption>
  • تتحول مسارات مواقع وب و عناوين البريد الإلكتروني إلى روابط آليا.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
1 + 1 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.