وكم من عائب قولاً صحيحاً

08:54 - 2021/01/26

إن كثيرا ممن يشنعون التقية على الشيعة يزعمون أنها من فروع النفاق وأن الغاية منها هي الإبادة والإفساد. المساكين لا يعون أن التقية من مبادئ الإسلام الحيوية وسلاح المضطهَد المظلوم تجاه المتعجرف الغاشم والتقابل بينها وبين النفاق تقابل الإيمان والكفر. قال المتنبي ولله دره: وكم من عائب قولاً صحيحاً*وآفته من الفهم السقيم.

التقية,الشيعة,تقية

التقيّة لغةً هي اتّخاذ الوقاية من الشرّ، وشرعاً إظهار الكفر وإبطان الإيمان‌. فهي تُقابل النفاق، تَقابُل الإيمان والكفر؛ فإنّ‌ النفاق ضدّها وخلافها، فهو عبارة عن إظهار الإيمان وإبطان الكفر، والتظاهر بالحقّ‌ وإخفاء الباطل، ومع وجود هذا التباين بينهما فلا يصحّ‌ عدّها من فروع النفاق. يقول الله سبحانه في تعريف المنافقين المتظاهرين بالإيمان والمخفين للكفر: "إِذٰا جٰاءَكَ‌ الْمُنٰافِقُونَ‌ قٰالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ‌ لَرَسُولُ‌ اللّٰهِ‌ وَ اللّٰهُ‌ يَعْلَمُ‌ إِنَّكَ‌ لَرَسُولُهُ‌ وَ اللّٰهُ‌ يَشْهَدُ إِنَّ‌ الْمُنٰافِقِينَ‌ لَكٰاذِبُونَ‌"[1] فإذا كان هذا حدُّ المنافق فكيف يعمُّ‌ من يستعمل التقية تجاه الكفّار والعصاة؛ فيخفي إيمانه ويظهر الموافقة لغاية صيانة النفس والنفيس، والعرض والمال من التعرّض‌؟! ويظهر صدق ذلك إذا وقفنا على ورودها في التشريع الإسلامي، ولو كانت من قسم النفاق، لكان ذلك أمراً بالقبح ويستحيل على الحكيم أن يأمر به: "قُلْ‌ إِنَّ‌ اللّٰهَ‌ لاٰ يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ أَ تَقُولُونَ‌ عَلَى اللّٰهِ‌ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ"‌.[2]
وأما الغاية من التقيّة فهي صيانة النفس والعرض والمال، وذلك في ظروف قاهرة لا يستطيع فيها المؤمن أن يعلن عن موقفه الحقّ‌ صريحاً خوفاً من أن يترتّب على ذلك مضارّ وتهلكة من قوى ظالمة غاشمة كلجوء الحكومات الظالمة إلى الإرهاب والتشريد والنفي والقتل والتنكيل ومصادرة الأموال وسلب الحقوق الحقّة، فلا يكون لصاحب العقيدة الذي يرى نفسه محقّاً محيص عن إبطانها، والتظاهر بما يوافق هوى الحاكم وتوجّهاته حتّى يسلم من الاضطهاد والتنكيل والقتل، إلى أن يُحدِث اللّٰه أمراً.
إنّ‌ التقيّة سلاح الضعيف تجاه القويّ‌ الغاشم، سلاح من يبتلى بمن لا يحترم دمه وعرضه وماله، لا لشيء إلّا لأنّه لا يتّفق معه في بعض المبادئ والأفكار. إنّما يمارس التقية من يعيش في بيئة صودرت فيها الحرية في القول والعمل، والرأي والعقيدة فلا ينجو المخالف إلّا بالصمت والسكوت مرغماً أو بالتظاهر بما يوافق هوى السلطة وأفكارها، أو قد يلجأ إليها البعض كوسيلة لابدّ منها من أجل إغاثة الملهوف المضطهد والمستضعف الذي لا حول له ولا قوّة، فيتظاهر بالعمل إلى جانب الحكومة الظالمة وصولاً إلى ذلك كما كان عليه مؤمن آل فرعون الذي حكاه سبحانه في الذكر الحكيم.[3]
إنّ‌ أكثر من يَعيبُ‌ التقيّة على مستعملها، يتصوّر أو يصوّر أنّ‌ الغاية منها هو تأليف جماعات سرية هدفها الهدم والتخريب، كما هو المعروف من الباطنيين والأحزاب الإلحادية السرّية، وهو تصوّر خاطئ ذهب إليه أُولئك جهلاً أو عمداً دون أن يرتكزوا في رأيهم هذا على دليل مّا أو حجة مقنعة، فأين ما ذكرناه من هذا الذي يذكره‌؟ ولو لم تُلجئ الظروف القاهرة والأحكام المتعسّفة هذه الجموع المستضعفة من المؤمنين لما كانوا عمدوا إلى التقية، ولما تحمّلوا عبء إخفاء معتقداتهم ولدعوا الناس إليها علناً ودون تردّد، إلّا أنّ‌ السيف والنطع سلاح لا تتردّد كلّ‌ الحكومات الفاسدة من التلويح به أمام من يخالفها في معتقداتها وعقائدها. أين العمل الدفاعي من الأعمال البدائية التي يرتكبها أصحاب الجماعات السرّية للإطاحة بالسلطة وامتطاء ناصية الحكم، فأعمالهم كلّها تخطيطات مدبّرة لغايات ساقطة. وهؤلاء هم الذين يحملون شعار «الغايات تبرّر الوسائل» فكلّ‌ قبيح عقلي أو ممنوع شرعي يستباح عندهم لغاية الوصول إلى المقاصد المشؤومة. إنّ‌ القول بالتشابه بين هؤلاء وبين من يتّخذ التقية غطاءً، وسلاحاً دفاعياً ليسلم من شرّ الآخرين حتّى لا يُقْتَل ولا يُستأصل، ولا تُنهب داره وماله، إلى أن يُحدث اللّٰه أمراً، من قبيل عطف المباين على مثله.
إنّ‌ المسلمين القاطنين في الاتّحاد السوفيتي السابق قد لاقوا من المصائب والمحن ما لا يمكن للعقول أن تحتملها ولا أن تتصوّرها؛ فإنّ‌ الشيوعيّين وطيلة تسلّطهم على المناطق الإسلامية قلبوا لهم ظهر الِمجَنّ‌، فصادروا أموالهم وأراضيهم ومساكنهم ومساجدهم ومدارسهم وأحرقوا مكتباتهم وقتلوا كثيراً منهم قتلاً ذريعاً ووحشياً، فلم ينج منهم إلّا من اتّقاهم بشيء من التظاهر بالمرونة، وإخفاء المراسم الدينية، والعمل على إقامة الصلاة في البيوت إلى أن نجّاهم اللّٰه سبحانه بانحلال تلك القوّة الكافرة، فبرز المسلمون إلى الساحة من جديد، فملكوا أرضهم وديارهم، وأخذوا يستعيدون مجدهم وكرامتهم شيئاً فشيئاً.
وما هذا إلّا ثمرة من ثمار التقية المشروعة التي أباحها اللّٰه تعالى لعباده بفضله وكرمه سبحانه على المستضعفين. فإذا كان هذا معنى التقية ومفهومها، وكانت هذه غايتها وهدفها، فهو أمر فطري يسوق الإنسان إليه قبل كلّ‌ شيء عقلُه ولبُّه، وتدعوه إليه فطرته، ولأجل ذلك يستعملها كلّ‌ من ابتُلي بالملوك والساسة الذين لا يحترمون شيئاً سوى رأيهم وفكرتهم ومطامعهم وسلطتهم ولا يتردّدون عن التنكيل بكلّ‌ من يعارضهم في ذلك، من غير فرق بين المسلم - شيعياً كان أم سنيّاً - وغيره، ومن هنا تظهر جدوى التقية وعمق فائدتها. ولأجل دعم هذا الأصل الحيويّ‌ سندرس في المقال التالي دليله من القرآن والسنّة.[4]

المصادر:
[1] . المنافقون: 1.
[2] . الأعراف: 28.
[3] . غافر: 28.
[4] . أضواء على عقائد الشيعة الإمامية وتاريخهم، جعفر السبحاني، قم، مشعر، ص406.

كلمات دلالية: 

Plain text

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a> <em> <strong> <span> <blockquote> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd> <br> <hr> <h1> <h2> <h3> <h4> <h5> <h6> <i> <b> <img> <del> <center> <p> <color> <dd> <style> <font> <u> <quote> <strike> <caption>
  • تتحول مسارات مواقع وب و عناوين البريد الإلكتروني إلى روابط آليا.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
4 + 4 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.