إلى ربّها ناظرة

09:27 - 2021/02/14

 هناك من لا خبرة له في اللغة وزعم أن قوله سبحانه «إِلىٰ‌ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ»‌ يدل على جواز رؤية الله (سبحانه). وفيه أن المقصود من النظر هنا بقرينة السياق المعنى الكنائي له وهو الانتظار. ثم النظر -ولو كان بمعناه الحقيقي- لا يساوق الرؤية، فالعرب تقول: نظرتُ فلم أرَ شيئاً. مع أنه يحتمل أن تكون «إلى» اسماً بمعنى النعمة جمعها آلاء، فمعنی الآیة: ناظرةٌ نعمةَ ربّها، كما ورد في الأحاديث.

رؤية الله,الوهابية,إلى ربها ناظرة

استدلّ‌ القائلون بجواز رؤية الله (سبحانه) بآيات متعدّدة والمهم فيها هو قوله سبحانه: «كَلاّٰ بَلْ‌ تُحِبُّونَ‌ الْعٰاجِلَةَ‌ * وَ تَذَرُونَ‌ الْآخِرَةَ‌ * وُجُوهٌ‌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ‌ * إِلىٰ‌ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ‌ * وَ وُجُوهٌ‌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ‌ * تَظُنُّ‌ أَنْ‌ يُفْعَلَ‌ بِهٰا فٰاقِرَةٌ‌».[1]
يقول الشارح القوشجي في شرحه لتجريد الاعتقاد: إنّ‌ النظر إذا كان بمعنى الانتظار يستعمل بغير صلة ويُقال انتظرته، وإذا كان بمعنى التفكّر يستعمل بلفظة  «في»، وإذا كان بمعنى الرأفة يستعمل بلفظة «اللام»، وإذا كان بمعنى الرؤية استعمل بلفظة «إلى»، فيحمل على الرؤية.[2]
ليعلم أنه طال الجدال حول ما هو المقصود من النظر في الآية، بين مثبتي الرؤية ونافيها، ولو أتينا بأقوالهم لطال بنا المقام، فإنّ‌ المثبتين يُركّزون على أن الناظرة بمعنى الرؤية، كما أنّ‌ نافيها يفسّرونها بمعنى الانتظار، مع أنّ‌ تسليم كونه بمعنى الرؤية غير مؤثّر في إثبات مدّعيها كما سيظهر، والحقّ‌ عدم دلالتها على جواز رؤية اللّٰه بتاتاً، و ذلك لأمرين:
الأول: أنّه سبحانه استخدم كلمة «وجوه» لا «عيون»، فقسم الوجوه إلى قسمين: وجوه ناضرة، ووجوه باسرة، ونسب النظر إلى الوجوه لا العيون، فلو كان المراد هو الرؤية لكان المتعيّن استخدام العيون بدل الوجوه، والعجب أنّ‌ المستدلّ‌ غفل عن هذه النكتة التي تحدّد معنى الآية وتخرجها عن الإبهام والتردّد بين المعنيين، وأنت لا تجد في الأدب العربي القديم ولا الحديث مورداً نسب فيه النظر إلى الوجوه وأُريد منه الرؤية بالعيون والأبصار، بل كلما أُريد منه الرؤية نُسب إليهما.
الثاني: لا نشكّ‌ أنّ‌ «الناظرة» في قوله إِلىٰ‌ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ‌ بمعنى الرائية، ونحن نوافق المثبتين بأنّ‌ النظر إذا استعمل مع «إلى» يكون بمعنى الرؤية، لكن الّذي يجب أن نُلفت إليه نظر المستدلّ‌ هو أنّه ربما يكون المعنى اللغوي ذريعة لتفهيم معنى كنائي، ويكون هو المقصود بالأصالة لا المدلول اللغوي، فلو قلنا: زيد كثير الرماد، فالجملة مستعملة في معناها اللغوي، ولكن كثرة الرماد مراد استعماليّ‌ لا جِدّيّ‌، والمراد الجِدّي هو ما اتّخذ المعنى الاستعمالي وسيلة لإفهامه للمخاطب، والمراد هنا هو جوده وسخاؤه وكثرة إطعامه، فإذا قال الرجل: زيد كثير الرماد، فلا نقول: إنّ‌ القائل أخبرنا عن كثرة الرماد في بيت زيد الذي يعدّ أوساخاً ملوثة لبيته، فيكون قد ذمّه دون أن يمدحه، بل يجب علينا أن نقول: بأنّه أخبر عن جوده وسخائه، والعبرة في النسبة المراد الجدي لا الاستعمالي، وهذه هي القاعدة الكلية في تفسير كلمات الفصحاء والبلغاء.
والآن سنوضح مفاد الآية ونبيّن ماهو المراد الاستعمالي والجدي فيها، وذلك لا يعلم إلّا برفع إبهام الآية بمقابلها، فنقول: إنّ‌ هناك ست آيات تقابلها ثلاث، وهي كالآتي: 1 - كَلاّٰ بَلْ‌ تُحِبُّونَ‌ الْعٰاجِلَةَ‌ يقابلها: وَ تَذَرُونَ‌ الْآخِرَةَ‌ . 2 - وُجُوهٌ‌ يَوْمَئِذٍ نٰاضِرَةٌ‌ يقابلها: وُجُوهٌ‌ يَوْمَئِذٍ بٰاسِرَةٌ‌ . 3 - إِلىٰ‌ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ‌ يقابلها: تَظُنُّ‌ أَنْ‌ يُفْعَلَ‌ بِهٰا فٰاقِرَةٌ‌ .
فلا شك أنّ‌ الآيات الأربع الاُول واضحة لا خفاء فيها، وإنّما الإبهام وموضع النقاش هو الشقّ‌ الأوّل من التقابل الثالث، فهل المراد منه جدّاً هو الرؤية، أو أنّها كناية عن انتظار الرحمة‌؟ والّذي يعيّن أحد المعنيين هو الشقّ‌ الثاني من التقابل الثالث، أعني: تَظُنُّ‌ أَنْ‌ يُفْعَلَ‌ بِهٰا فٰاقِرَةٌ‌ فهو صريح في أنّ‌ أصحاب الوجوه الباسرة ينتظرون العذاب الكاسر لظهرهم، ويظنّون نزوله. و هذا الظن لا ينفكّ‌ عن الانتظار، فكلّ‌ ظانّ‌ لنزول العذاب منتظر، فيكون قرينة على أنّ‌ أصحاب الوجوه المشرقة ينظرون إلى ربّهم، أي يرجون رحمته، و هذا ليس تصرّفاً في الآيات ولا تأويلاً لها، وإنّما هو رفع الإبهام عن الآية بالآية المقابلة لها، وترىٰ‌ ذلك التقابل والانسجام في آيات أُخرىٰ‌، غير أنّ‌ الجميع سبيكة واحدة.
1 - وُجُوهٌ‌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ‌ يقابلها: ضٰاحِكَةٌ‌ مُسْتَبْشِرَةٌ‌.[3] 2 - وَ وُجُوهٌ‌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهٰا غَبَرَةٌ‌ يقابلها: تَرْهَقُهٰا قَتَرَةٌ‌.[4] فإنّ‌ قوله: ضٰاحِكَةٌ‌ مُسْتَبْشِرَةٌ‌ قائم مقام قوله: إِلىٰ‌ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ‌ فيرفع إبهام الثاني بالأوّل. 3 - وُجُوهٌ‌ يَوْمَئِذٍ خٰاشِعَةٌ‌ يقابلها: عٰامِلَةٌ‌ نٰاصِبَةٌ‌ * تَصْلىٰ‌ نٰاراً حٰامِيَةً‌.[5] 4 - وُجُوهٌ‌ يَوْمَئِذٍ نٰاعِمَةٌ‌ يقابلها: لِسَعْيِهٰا رٰاضِيَةٌ‌ * فِي جَنَّةٍ‌ عٰالِيَةٍ‌.[6]
أُنظر إلى الانسجام البديع، والتّقابل الواضح بينهما، والهدف الواحد، حيث الجميع بصدد تصنيف الوجوه يوم القيامة، إلى ناضر ومسفر، وإلىٰ‌ ناعم وباسر، وإلىٰ‌ أسود (غبرة) وخاشع.
أمّا جزاء الصنف الأوّل فهو الرحمة والغفران، وتحكيه الجمل التالية: إلى ربّها ناظرة ضاحكة مستبشرة في جنة عالية .
وأمّا جزاء الصنف الثاني فهو العذاب والابتعاد عن الرحمة، وتحكيه الجمل التالية: تظن أن يفعل بها فاقرة ترهقها قترة، تصلى نارا حامية.
أفبعْدَ هذا البيان يبقىٰ‌ شكّ‌ في أنّ‌ المراد من إِلىٰ‌ رَبِّهٰا نٰاظِرَةٌ‌ هو انتظار الرحمة!! والقائل بالرؤية يتمسّك بهذه الآية، ويغضّ‌ النظر عمّا حولها من الآيات، ومن المعلوم أنّ‌ هذا من قبيل محاولة إثبات المدّعىٰ‌ بالآية، لا محاولة الوقوف على مفادها.
ثمّ‌ إنّ‌ لصاحب الكشاف هنا كلمةً‌ جيدة، حيث يقول بهذا الصدد: يقال: «أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي» يريد معنى التوقّع والرجاء، ومن هذا القبيل قوله: وإذا نظرت إليك من ملك والبحر دونك زدتني نِعَما وقال: سمعت سروية مستجدية بمكّة وقت الظهر حين يغلق الناس أبوابهم ويأوون إلى مقائلهم تقول: عُيينتي نويظرة إلى اللّٰه وإليكم، تقصد راجية ومتوقّعة لإحسانهم إليها، كما هو معنى قولهم: أنا أنظر إلى اللّٰه ثمّ‌ إليك، وأتوقّع فضل اللّٰه ثمّ‌ فضلك.[7]
أضف إلى ذلك أن النظر -و إن كان المقصود منه النظرة العينية- لا يساوق الرؤية فالعرب تقول: نظرتُ فلم أر شيئا.[8] ثم إنه يحتمل أن تكون إلى اسما بمعنى النعمة جمعها آلاء، فمعنى الآية: ناظرة نعمةَ ربّها.[9]
فأنصف أيها القارئ الكريم ما الذي يحوجنا إلى أن نتخذ معنى يخالف العقل والنقل مع أن هناك معانيا أخر صحيحة تتبادر إلى الذهن دون أن تجلب محذورا.

المصادر:
[1] . القيامة: 20-25.
[2] . شرح التجريد، القوشجي، ص 334.
[3] . عبس: 38-39.
[4] . عبس: 40-41.
[5] . الغاشية: 2-4.
[6] . آل عمران: 77.
[7] . الكشّاف، جار الله الزمخشري، ج3، ص294.
[8] . الفروق في اللغة، ابو هلال العسكري، ص67.
[9] . مجمع البحرين، الطريحي، ج3، ص497.

Plain text

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a> <em> <strong> <span> <blockquote> <ul> <ol> <li> <dl> <dt> <dd> <br> <hr> <h1> <h2> <h3> <h4> <h5> <h6> <i> <b> <img> <del> <center> <p> <color> <dd> <style> <font> <u> <quote> <strike> <caption>
  • تتحول مسارات مواقع وب و عناوين البريد الإلكتروني إلى روابط آليا.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
1 + 0 =
Solve this simple math problem and enter the result. E.g. for 1+3, enter 4.