مشرع الفصاحة وموردها ... زينب بنت علي

بذل بنو أمية كل جهودهم لكي لا يبقى من الإمام الحسين عليه السلام اسم وحاولوا كل المحاولة أن يتباهوا بفوزهم الظاهر في أهم مراكز العالم الإسلامي وهي الكوفة والشام. ولذلك أباح يزيد عليه اللعنة كل أنواع الإهانات لأبي عبد الله عليه السلام وسبي أهل بيته كالإمام السجاد والسيدة زينب عليهما السلام ليطفئ نور الوحي على زعمه، غير مدرك أن الله تعالى لبالمرصاد فيجعل الحق منتصرًا بطريقة لا يخطر ببال أحد. 

لما حان دور السيدة زينب

بعد أن استشهد الإمام الحسين عليه السلام حان دور السيدة زينب وألقت خطبها الخالدة فأقامت الدنيا وأقعدها وفضحت الشجرة الخبيثة أمام أعين الناس وأزال القناع عن وجههم وبذلك انقلب السحر على الساحر. كيف لا وهي ربيبة الوحي وعالمة غير معلمة ومشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها.  

خطبة السيدة زينب عليها السلام في الكوفة

إن لخطبة السيدة زينب عليها السلام في الكوفة والشام دورا هاما في انتصار ثورة الإمام الحسين فلو لم تكن خطبها الاستفزازية المحذرة لم تكن الثورة تعطي أكلها.

لقد قامت عقيلة بني هاشم موضحة للناس خبث ابن زياد ويزيد ولؤمهما، بعد أن أشارت الى ذلكم الجمع المتراكم فسكنت الأنفاس وهدأت الأجراس وهدؤوا حتى كأنّ على رؤوسهم الطير.[1]

غير خاف أن هكذا تأثير لا يتاتى إلا ممن تحلى بالهيبة الإلهية وتلبس بالبهاء الربوبي وإلا كيف يمكن لامرأة تسكين تيك الضوضاء وإسكات تلكم الجلبة؟!

فيقول الرواي: أومأت زينب ابنة علي عليه السلام إلى الناس فسكنت الأنفاس وهدأت الأجراس، فحينها اندفعت بخطابها بقوة وطمأنينة نفس، ورباطة جأش، وبسالة حيدرية، ورأيت زينب بنت علي فلم أر خفرة -وهي شديدة الحياء- أنطق منها كأنما تفرغ عن لسان أبيها.[2]

فقالت صلوات الله عليها:

(الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار، أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر، أتبكون فلا رقأت الدمعة، ولا هدات الرنة، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف، والعجب والكذب والشنف، وملق الإماء، وغمز الأعداء، او كمرعى على دمنة، او كقصة على ملحودة، ألا بئس ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم، وفي العذاب أنتم خالدون.

أتبكون وتنتحبون، اي والله فابكوا كثيراً، واضحكوا قليلاً، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة ومدرة حجتكم، ومنار محجتكم، وملاذ خيرتكم، ومفزع نازلتكم، وسيد شباب أهل الجنة ألا ساء ما تزرون.

فتعساً ونكساً وبعداً لكم وسحقاً، فلقد خاب السعي، وتبت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله ورسوله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.

ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم؟

وأي كريمة له أبرزتم؟

وأي دم له سفكتم؟

وأي حرمة له انتهكتم؟

لقد جئتم شيئاً إداً، تكاد السماوات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدّاً!

ولقد أتيتم بها خرقاء، شوهاء كطلاع الأرض، وملء السماء، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنكم المهل، فانه لا يحفزه البدار، ولا يخاف فوت الثار، وإن ربكم لبالمرصاد).[3]

فقال لها الإمام السجاد عليه السلام: (يَا عَمَّةِ اسْكُتِي فَفِي الْبَاقِي مِنَ الْمَاضِي اعْتِبَارٌ وَأَنْتِ بِحَمْدِ اللَّهِ عَالِمَةٌ غَيْرُ مُعَلَّمَةٍ فَهِمَةٌ غَيْرُ مُفَهَّمَة).[4]

فقطعت العقيلة عليها السلام كلمتها، فأدهشت ذلك الجمع المغمور بالتمويهات والمطامع، وأحدث كلامها أيقاظا في الأفئدة ولفتة في البصائر وأخذت خطبتها بمجامع قلوبهم وعرفوا عظم جريمتهم فجعلتهم باكين نادمين لا يدرون ما يصنعون!

المصادر:

[1] . بلاغات النساء، ابن طيفور، ص 39.

[2] . مثير الأحزان، ابن نما الحلي، ص 86.

[3] . اللهوف، السيد ابن طاوس، ص 148.

[4] . الاحتجاج، الطبرسي، ج 2، ص 305.